كحلم أبيض والقاصة غفران طحان

حلب
ثقافة
25/8/2010
عدنان الدربي
عندما أنهيت قراءة القصص القصيرة التي وضعت لها المؤلفة عنوان ( كحلم أبيض ) لم يرد بين المجموعة قصة تحمل عنوان الغلاف ، بل جاء في قصة (لأنه) صورة مبدعة حيث تقول الأديبة غفران :
( وهي تتهادى من بعيد كحلم أبيض ، خصلات شعرها الفاحم تتراقص على نغمات تحدثها قدماها ، وترسم فصولاً مزهرة على خدودها الناعمة) .‏
ففي هذه القصص تألق وطيران فوق السحاب والقمم ، لأن مايشد القارئ في كل قصة أنه لايستطيع الشرود وإن شرد فسوف يضطر للعودة إلى البداية ، وهذا يعني أن كل قصة أشبه بقصيدة تزخر بالرموز الشفافة والصور المبتكرة التي تدل على صفاء ذهن الكاتبة وامتلاكها ذخيرة لغوية ، ومما يؤكد ذلك الصور العفوية التي تحلق فيها غفران لتثبت براعتها كقولها : ( تسللت كفاه لتفك جديلة استقرت على ظهري فانساب شعري من خلال الأصابع شلال عتمة ) وقولها ( ظل واجماً يقتات الصمت من حروفه النائمة ) . ( نقاط تتفلت من قلمي لتنساب على الورق شلال رؤى ) . ( ها هي السماء تلملم ماتبعثر من غيومها وتعقد قرانها لتلد مطراً) . ( يلقي القمر بظله الفضي على صفحة ماء البركة متحدياً بنوره سواد الليل ) . (يتسلل ليلاً ليغطيني ببعض من حنانه ) .‏
هذه الصور تنم عن شفافية وإبداع وتألق . وكأنها مياه عذبة تنساب من قمة الجبال لتعانق الأرض العطشى والإنسان الظمآن كي ينهل منها فيشعر بما يثلج صدره وهو يحضن هذه الصور التي تشاركه هذه اللحظات الحلوة ففي قصة ( يوميات جنون بكثير من الحب ) حيث غاب البطل وهي تشعر بضياع غيابه ، ولكن على الرغم من حالات الحزن التي تعيشها البطلة فإنها تقول ( وسأبرر غيابه بكثير من الحب والدعاء والبكاء ) .‏
أما قصة ( على أهبة الحب ) فقد تركها وحيدة تعاني أزمة ثقة مع القدر ، مجسدة الصورة الجميلة حيث تقول الأديبة غفران على لسان البطل : ( في جميع الأمكنة .. فمنذ أن بحت لهذه المدينة بحبي لها صارت تدعوني بتواطؤ صامت لقضاء ليالي الحب ) . وعندما حاول البطل الاعتذار وتبرير الغياب قالت :‏
(لاتأسف ولاتعتذر ، مازلت على أهبة الحب ) ثم تنتهي القصة بقولها : ( أرخى الليل معطفه الأسود علينا ، بينما كانت القلعة تدعونا لقضاء الليلة عندها ) .‏
وفي قصة ( كفاه وشيء كان ) كفاه فقط تمتدان الآن أرقبهما وهما تتدحرجان أمامي ، تمسكان يدي التي ضاعت في رائحة النسيان والدفء فيهما .‏
بعد أن انتهيت من تأمل هذه الصورة تذكرت قصيدة الشاعر نزار قباني ( أيظن ) حيث يقول ( وبدون أن أدري / مددت له يدي / لتنام كالعصفور بين يديه ) .‏
وفي نهاية القصة يقول البطل : ( لماذا ترتجفين ؟ فتجيب : لاتقلق ياعزيزي انه مجرد شيء كان ) .‏
فالمجموعة القصصية التي تضم بين حناياها سبع عشرة قصة قصيرة ترسم غفران من خلالها لوحات فنية تسير فيها الريشة وهي تختار بنفسها الألوان دون تكلف يتأملها القارئ ، يقف صامتاً لحظات وهو يفكر كيف استطاعت هذه الريشة أن تبدع في إتقان هذه اللوحات التي لن تمحى من الذاكرة .‏
قد يظن من يقرأ قصص هذه المجموعة ( كحلم أبيض ) أن بين بعضها تشابهاً في المعنى ، وأنا أوافقه الرأي ، لكن الحقيقة أن كل قصة تحكي شيئاً مختلفاً عن غيرها ولاسيما في تصوير نفسية كل شحص والظروف التي يعانيها . إلا أن الأمل هو الحاجة الضرورية لكل إنسان مهما عانى وتعذب وصبر ، فالكاتبة استطاعت بعفوية أن تنفذ إلى أعماق شخصياتها وكأنها أستاذة ليس في مادة اللغة العربية وحدها بل أستاذة في علم النفس أيضاً وكأنك تقرأ بين سطورها سطوراً وهذه السمة هي سمة الكاتب الحقيقي .‏
فالحلم الأبيض يواكب مسيرة حياة أبطال القصص ، ففي بداية المجموعة القصصية وبعد الإهداء تقول غفران طحان : (تأكد حتى المطر عندما يفتقد الحب يجلد الأرض جلداً )‏
فالحب هو الحياة . ألم تقل الشاعرة فدوى طوقان للعام الجديد :‏
أعطنا حباً ، فبالحب كنوز الخير فينا تتفجر / أعطنا حباً فنبني العالم المنهار فينا من جديد .‏
أجل فالحب الصادق والحلم الأبيض هما طريقا السعادة والسؤال الآن : هل استطاعت قصص غفران القصيرة أن تحقق المستوى الفني للقصة القصيرة بمحتواها وشكلها ؟ أجل فإذا كانت القصة القصيرة أقرب إلى التوغل في أبعاد النفس والدخول في أعمق أعماقها فإن مجموعة قصص ( كحلم أبيض ) مؤهلة في بنيانها وإيقاعها أن تكون التعبير الأمثل عن العصر الذي نحياه ، بتعقيداته وخفاياه ومركباته وإيقاعه المتسارع بشكل مكثف ومركز ، وهذا ماضمن لها وحدة التأثير.‏
فكل قصة تصور حادثة واحدة أو موقفاً مفرداً أو حالة نفسية اعترت شخصية في لحظة ما أو جانباً واحداً من الشخصية وفي حيز ضيق يجمعها غرض واحد ، وهي تمتاز بوحدة التأثير والتكثيف والتركيز في الموضوع وفي الحادثة وفي طريقة سردها . أو في الموقف وطريقة تصويره .‏
وقد بلغ التركيز حداً لانستطيع الاستغناء عن لفظة واحدة ، ولايمكن استبدالها بكلمة غيرها ، فكل لفظة موحية لها مواجهة مع الذات وبذلك تقترب من القصيدة الشعرية .‏
وبهذه السمات استطاعت هذه القصص أن تستوفي شروطها الفنية .‏

شكر لثلاثة بداية للسيد عبد الفتاح على اداجه هذه القراءة وثانيا للأستاذ عدنان الدربي على كتابتها وثالثا للأديبة غفران طحان العمود الفقري لهذا الموضوع