مجموعة قصص كحلم أبيض - بعضاً من رائحته - للقاصة المتألقة غفران طحان

بلغة أخرى صاغ خطابه هذا الصّباح... لم ينمّق... ولم يختر أياً من الكلمات التي اعتاد أن يسكبها في قلوبنا...
كان حديثاً مقتضباً اكتفى فيه بالإشارة إلى بعض النقاط الهامة في المادة... وغاب.
تعلٌقت عيناي برائحته هذا الصباح... كنت وكأني أراها تمشي كظلٍّ وراءه، وتفضح ما يخفيه
كانت كرائحة بخور معتق... تدهشك... تأسرك... وتلملم ما تبقى من هشيمك... ثمّ تذروك مع الرياح.

جمعت كتبي ولحقت برائحته التي انتشرت في الأمكنة... ولونتها بلون الزيزفون... ورائحة الضياء
كنت تائهة لا أعرف من أين أذهب... أسرعت الخطى... وجعلت بعضاً من روحي يسبقني ليرشدني إلى الطريق الذي عبرته تلك الرائحة...
ومن بعيد... كان واقفاً يراجع إحدى الإعلانات... فسابقت نظراتي إليه.
توقفت بالقرب منه... وحاولت جمع بعضٍ من الأسئلة لألون بها موقفي... ولكنني لم أجد أياً منها..!!
استدار وصار موجها كل رجولته نحوي.
لم أستطع النظر إلى عينيه... فاكتفيت بالإصغاء إلى حديث تجريه أصابعه مع قلمٍ أخضر اعتاد أن يحمله...
ثم أخرج صوته قائلاً:
- نعم يا آنسة... هل تريدين أن تسألي شيئاً...!!؟
علاني الارتباك... وسدّ النسيان أبواب ذاكرتي فبدأت بحوار قد يطول بين أصابعي وخصلات تتدلى من شعري.
ظلّ واقفاً ينظر إليّ... وينظرني بعضاً من وقته... إلى أن أفقدني الصواب سؤالٌ سقط كحجر على رأسي فسألت بتعثر:
- ما سرّ تلك الرائحة التي تفوح من جسدك هذا اليوم!!؟
نظر إليّ باستغراب يتطاير من تقاسيم وجهه وقال:
- أي رائحة..!!؟ اليوم بالذات لم أنثر أيّ قطرة عطر على جسدي... وكما ترين فإنني مستعجل... هل تريدين شيئاً آخر..!!؟
تملكني خجل شديد... ولم أستطع أن أصوغ اعتذاراً مناسباً... اكتفيت بإسقاط كتبي على الأرض لأتشاغل في جمعها... بينما يزرع هو الطريق غياباً...
ولكنه اختار الحضور المذهل..!!
انحنى ليساعدني في جمع كتبي... وتشتيت روحي...
شكرته بحرارة... وأرسلت يدي لتسبقني إلى جنته وتغنم ببعض منه...

*** *** ***
لم تغادرني صورته في الأيام التالية... وبقيت كفي ترفل برائحته التي استعصت بعدها على أكثر المنظفات نفاذاً...
صارت تلك الرائحة هذياناً يأكلني... ويدنيني من الجنون...
أشتمّها في كل مكان... وأراها في كل من حولي...
إلى أن قررت أن أذهب لرؤيته مجدداً.
جمعت بعض الأسئلة التي تخص مادته... وحاولت نثر بعض العطر على جسدي... ولكن وكعادة المستبد يقصي كل من يحاول الاقتراب منه... كانت رائحته هي الطاغية.
كنت كالمجنون أمشي... أدير رأسي يمنة ويسرة... أتفحص الوجوه جيداً... ربما يكون أحد المارة، فرائحته ما زالت تعبق بقوة في هذه الأمكنة... لابدّ مرّ من هنا... وهنا... وهنا...
دخلت باب الكلية... فصارت صورته تلازم رائحته بمزيد من الضغط على روحي... مرّة أخرى تماسكت بعد أن أغمضت عيني... وتركت الرائحة ترشدني إليه فهي التي دلتني عليه أولاً.
لم يطل الوقت بي حتى كنت مقابل لوحة تتضمن اسمه وبحركة لا شعورية بدأت بنفض الغبار عنها،
تقدمت بخطى مرتعشة من باب المكتب...
طرقت الباب فأجابني صوته بأحرف تشكلت لتعني: " تفضلي"..
ولكنها كانت تعني لي: "اسكني جنتي... هي لك... ووحدك"
أرسلت إحدى قدميّ لتسبقني هي الأخرى بالدخول... ثمّ انزلقت بكلي وتوضعت أمام رجولته مرّة أخرى.
كان في المكان رائحة أخرى...!! لم أميزها... ولكنني تذوقتها قبلاً... إنّها رائحة عطره الذي كان يضعه قبل تلك الحادثة... ومن زاويةٍ محددة كانت تلك الرائحة تنطلق لتنتشر وتعبق...
أرسلت عينيّ لمتابعة مصدر تلك الرائحة الدخيلة على قصتي معه، فوجدتها تفوح من أخرى تتربع ملكة في جنته...!!!
لحظتها فقط غادرتني تلك الرائحة... استجمعت قواي ونظرت إلى عينيه... لكنّه كان منشغلا بالنظر إلى الأخرى بكل فرح... ورائحةٌ ما كانت تفوح منه ومنها.
نظر إليّ... وقال ضاحكاً:
- هل تودين السؤال عن عطري هذا اليوم.. اليوم...
لم أسمع باقي حروفه... بينما كنت ألحظ ظله الذي امتد ليعانق ظلّها... وأشتم بنفور رائحته التي تنساب من مسام جسدها.
لحظتها فقط... استرجعت الأسئلة كلّها... وسألته عنها وغادرت... كما غادرتني تلك الرائحة
مع أنها ما زالت تفوح من كفّي بين حين وآخر!!!


[center]

مشكور اخي على هذه القصص الرائعه والجميله وكلمات القصص معبره وننتظر مزيدك

شكراً لك عاشقة تراب فلسطين لتألقك في المنتدى ، والشكر الكبير لأديبتنا المبدعة غفران طحان ... صوت الروح ونبض القلب .
وسوف ننشر تباعاً بقية قصص كحلم أبيض ،ولقاءً معها في القريب العاجل إن شاء الله .