أسًـود الأرض ..( مشهد من ملحمة) / طه خضر .

حل الظلام سريعا هذا اليوم ، الأفق الغربي أحمر دموي لكأنما قـُد من رحم اللهيب قدا ، هكذا قالت ( دهرية ) وهي تشعل مصباح الكاز في الغرفة المظلمة ذات السقف الحديدي المتهالك في مخيم الوحدات شرق العاصمة عمّان .
خرج (سعد) مع شقشقة الضوء بعد أن أدى صلاة الفجر وقبل أن يتمزق ستار الظلام ، قال لها وهو يعانق مدفع الكلاشنكوف مستجلبا منه العزم:
- يا جاني الهول يا دهرية ، أنا أنام في الفراش وباقي الرفقان مرابطين في الأغوار ما تغمظلهم عين !!
أطرقت للحظة وهي تتذكر ما سمعته بالأمس من المذياع عن أرتال ضخمة يحشدها العدو غربي نهر الأردن ؛ وما روته جارتها عن زوجها القادم من الأغوار من إجلاء للعائلات تقوم به القوات المسلحة بالتعاون مع المجاهدين تحسبا للأسوأ ...!
- لن أبقى هنا أضرب أخماسا بأسداس والأمور مقلوبة رأسا على عقب ..!!
هكذا حدثت دهرية نفسها وقد أزمعت على استيداع الباقي من أولادها عند أم خالد (أم كل المخيم كما يسمونها) ومن ثم اللحاق بالمجاهدين في الأغوار .
قالت معزية نفسها :
- لن يحتاجني الصبي بعد اليوم ؛ فلم يبقى في صدري نقطة حليب أبذلها له .!!
في الهزيع الأخير من ليلة 21 /آذار- 1968 رأى بعض الناس و أثناء عودتهم من صلاة الفجر شبح امرأة تتلفع بالسواد وتحث الخطى ميممة صوب حي الاشرفيـّة .
نهض سعد في منتصف الليل وقد ألم به عارض غريب قضّ مضجعه وأبعد النوم عن جفونه ، خرج من الاستحكام وحدّق بالأفق الداكن لبرهة ، خيل إليه أنه سمع صوت أزيز طائرة قبل أن يخرج ، أمعن النظر ، لم ير شيئا ، تمتم بينه وبين نفسه :
- أولاد الخنازير ، لا بد أنهم يبيتون كيدا عريضا ..!!
قال ذلك لنفسه وهو يتقدم ويمعن النظر ، إنه يسمع دبيب النمل في جحوره ، وصوت هذه الطائرة ليس بغريب عليه ، إنه يسمعه قبل كل عملية قصف أو تمشيط يقوم بها العدو ....، بقي على حاله لثلاث ساعات ، كان خلالها آذانا صاغية وكتلة مشدودة من الأعصاب والعضلات ،محاولا التقاط أي صوت يسمعه ، .. كل شيء من حوله ساكن إلا ...... ، ......انتفض فجأة كمن لدغه ثعبان ، وانقض على مدفعه الرشاش واستعد .. ، طرق سمعه الحاد صوت حديد يحتك ببعضه آت من البعيد ،... هل هي دبابة ؟؟؟ أصاخ السمع قليلا ... إنها دبابة ... لا بل دبابات ، هي الحرب إذا ، .. وبيدين من فولاذ أطبق على زناد رشاشه وأطلق في الهواء صلية مزّقت صمت الليل وهو يصيح بصوت مزلزل ٍ كالرعد القاصف رددت صداه جبال السلط :
- إنهم يهجموا ... إنهم يهجموا ... النفير النفير .. مواقعكم يا أسود الأرض ..!!
وبثوان ٍ معدودة كان الرجال في مواقعهم القتالية ، .. صاح سعد بصوت ٍ كالهدير :
- يااااا خوووووش .. ماني شايفهم ..يستخدمون الأشعة تحت الحمرى ..!
أطلق الخوش قنبلة مضيئة أنارت الأفق أمامهم وحولته الى نهار ، وعلى وهجها رأى قذيفة آر بي جي تنطلق من مدفع ثائر وتنفجر في دبابة القائد على بعد مائة متر محيلة ً إياها إلى جحيم متحرك والظلام من حولها الى نهار ، .. صاح ثائر :الله أكبر .. وصاحوا من حوله الله أكبر .. فرددت جبال السلط الصيحة الأبدية الخالدة الله أكبر .. ، والتفوا بحركة دائرية على الرتل المتقدم الذي لم يطلع عليه الصبح .!!
مع أولى تباشير الصباح كان العدو قد أخلى معظم آلياته المدمّرة وألقى بخمس أمثالها في أرض المأسدة ، هاجمت الطائرات قرية الكرامة بوحشية لا مثيل لها ؛ لكأنما هدفها التدمير .. والتدمير فقط ، كانت الانفجارات في كل مكان؛ فتحولت السماء من فوقهم إلى جهنم والأرض من تحتهم إلى براكين ، ... لم يفاجأ سعد عندما رأى دهرية وهي تحمل قربة الماء وقطع القماش ومعها أربع فتيات لم يغادرن سنين المراهقة وهن يسحبن الجرحى إلى المـُغر القريبة ، وخلفهن سعدة بنت الخمسة عشر ربيعا تحميهم بمدفعها الرشاش وعلى وسطها ورقبتها يتلألأ حزام الرصاص كأروع ما تكون الجواهر في جيد حسناء ، .. رأى من وراء متراسه الخوش ، ذلك السبعاوي السبع وهو يزحف ( بعد أن نفذت ذخيرته وأثخنته الجراح)باتجاه سيارة للعدو ثم يقودها بسرعة كبيرة لتنفجر بالمجنزرة التي تتقدم الرتل ، ... هل استشهد الخوش ؟؟؟ !!! .. لا .. لقد قفز من السيارة قبل أن تنفجر وزحف نحو الدبابة ، رآه بأم عينه وهو يتسلقها ويفتح برجها ويغيب فيه ... ، .. وما هي إلا ثوان واستدار برج الدبابة الى الخلف وصب حممه على مؤخرة الرتل ، أصابت قذيفته الأولى الدبابة قبل الأخيرة والثانية سيارة كانت تسير في المؤخرة ، وقبل أن تنطلق الثالثة ، أصابت دبابة الخوش قذيفة نسفتها وهو فيها .. ،... صاح سعد بأعلى صوته :
- يا خوش .. يا خوش ... جيتك يا خووي ... !!!
وأطلق قذيفته المضادة مستهدفا الدبابة التي اقتنصت الخوش وما هي إلا ثوان حتى كانت الدبابة كتلة من الحديد المستعر .. ، .. نفذت ذخيرة سعد فما كان منه إلا أن ألقى بمدفعه الحبيب جانبا وتقدم بصدره العاري وهجم على إحدى الدبابات وفتح برجها عنوة وألقى بنفسه داخلها ، .. أطبق بأصابعه الفولاذية على رقبة قائد الدبابة المثبّت بالجنازير حتى سمع فرقعة عظام رقبته ، وعندما شعر بيدي ( المدفعجيّ ) تطبق على رقبته التفّ فجأة وأطبق بأسنانه على حنجرته حتى اقتلعها .. !!!
كان هجوم العدو كاسحا وأكثر مما يطيقون ، .. بعض المجاهدين ربط نفسه بالأشجار والصخور حتى لا يتراجع أو ينقلب على عقبيه ، وقضى تحت جنازير الدبابات الجامحة ، .. ثائر الحجاوي ابن نابلس جبل النار وبعد أن نفذت ذخيرته كمن حتى تقدمت سيارة العتاد التي تسير في منتصف الرتل ، وسكب على نفسه البنزين وعندما أصبحت السيارة بجانبه تماما ، أشعل بنفسه وجرى خلفها وهو كتلة من اللهب ثم ألقى بنفسه داخلها وفجـّر نصف الرتل وهو يكبـّر ، ومع ذلك كانت نيرانهم الحاقدة تسبقهم ولا تلامس شيئا إلا وتذره قاعا ً صفصفا ، .. كان الشهداء يرتقون تباعا والجرحى في كل مكان والعدو يتقدم على الجثث بحردٍ لا مثيل له ، عندما ألقت ( دهرية) قربة الماء وقطع القماش ، وانطلقت كالبرق تجري صاعدة إلى جبال السلط ، تذكرت منظر الخوش وهو يحترق وسعد وهو يقفز من الدبابة ويهجم على أخرى ؛ فاستيقظت في جسدها الواهن قوة خفيّة ، رأت أمام مخيلتها ابنها جهاد يرتدي الخاكي ويركض ، فازدادت سرعتها ...
- مشان الله يا خووي .. اليهود ذبحونا ..!!
كانت دهرية تصيح وهي تحثو على رأسها التراب .. !!
انتفض جازي الضابط في الجيش الأردني وصاح وقد أخذته المفاجأة :
- مين أنتي يا حُرمة ..!!
- أنا دهرية مرة أخوك سعد يا خووي ...!!
ذهل جازي للحظات ثم انتفض كمن لدغته أفعى وهو يصيح :
- يا سعد يا سبع الرجال .. لعيناك يا خوي أبشر ... !!
ثوان ٍ مرّت حسبتها دهرية عمرا ً بأكمله قبل أن يبدأ أسود جبال السلط بإرسال قذائف الجحيم لتحط على رؤوس العدو الذي تراجع مذعورا ً وانقلب على عقبيه لا يلوي على شيء ...!!
مع كل قذيفة مدفع وطلقة رشاش تنطلق كانت دهرية تزغرد مع الأخريات ، وكان صوت الله أكبر ... الله أكبر .. يشق صدر السماء ويملأ فجاج الأرض .. عندها عاد للأسود نشاطهم ونهضوا رغم جراحهم الغائرة ودماهم النازفة وأشلائهم المتناثرة وهجموا من جديد ... وكانت الكـــــرامـــة ..!!!

طــه خضــر ..


أحداث هذه القصة واقعية وأبطالها وإن اختلفت أسمائهم إلا أنهم ساروا على هذه الأرض يوما .. وما زالت تزيّن صدرها بذرات من عرقهم أو قطرات من دمائهم .!!