الصيادون الفلسطينيون في مخيم الرمل باللاذقية يستذكرون مأساة النكبة وسقوط مدينة حيفا

الصيادون الفلسطينيون في مخيم الرمــل باللاذقية يستذكرون ..
الصيادون الفلسطينيون في مخيم الرمل باللاذقية يستذكرون مأساة النكبة وسقوط مدينة حيفا ومينائها بحر اللاذقية جسر يصلنا بشواطئ فلسطين ... نقلنا فنون الصيد الفلسطيني إلى الصيادين السوريين
على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، بدأت تجربتهم في الصيد منذ 56عاماً ولم تزل. كانوا كما السمك الذي اعتادوا صيده، لم يستطيعوا العيش في بقية المخيمات الفلسطينية في سورية بعيداً عن الشاطئ وأمواج البحر، ففضلوا العيش في حي الرمل بمدينة اللاذقية الساحلية، الحي السكني الأقرب للشاطئ والملامس له.. ونقلوا معهم رغم معاناتهم ومآسيهم فنون الصيد الفلسطيني بكافة أصوله وقواعده ومهاراته، إذ أن معظمهم قدم من يافا وحيفا وهي المدينة الفلسطينية التي كانت تحظى بثاني أكبر ميناء على البحر المتوسط عام 1948م.
أنشئ مخيم الرمل عام 1955م على مساحة من الأرض تبلغ 220.000 متراً مربعاً. ويعد الرمل أحد أهم تجمعات اللاجئين الفلسطينيين في سورية، وأكثرها بؤساً وشقاءً، إذ يقتصر تخديم المخيم على خدمات المؤسسة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب، وهي الجهة المسئولة عنه والمشرف عليه، من خلال توفيرها للكهرباء والماء وتعبيد بعض الطرق. وتقوم حالياً بعدد من المشاريع الخدمية فيه، ولكن لم ينته العمل بها بعد. أما الأنروا فتعتبر المخيم تجمعاً غير رسمي للاجئين الفلسطينيين، رغم تقديمها لبعض الخدمات كالمدارس وبعض الخدمات الصحية، علما بأن هذا المخيم يضم قرابة 6334 لاجئاً فلسطينياً بحسب إحصائيات الأنروا لمنتصف عام 2002م، من بينهم 163 أسرة تضم 490 لاجئاً فلسطينياً تصنفهم الأنروا كحالات صعبة، وهي الحالات التي تعاني فقراً شديداً أو مرضاً أو لا يوجد لديها معيل.. وبالتالي لا تستطيع تأمين قوتها اليومي.
عن الصيد في شواطئ فلسطين قبل عام 1948 وصولاً إلى شواطئ سورية، وعن أبرز محطات الألم والرعب والمجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحقهم، لدفعهم إلى الهجرة قسراً عن أرضهم ومنازلهم في فلسطين، وبدايات تشكل مخيم الرمل باللاذقية ومعيشتهم فيه، وعلاقتهم بالبحر والاستمرار بالصيد بالطريق إلى فلسطين.. قابلنا بعض سكان المخيم وكان لنا هذا التقرير: أقسمت أني سأعود.. ولم أزل لاجئاً حتى اليوم لما سقطت حيفا كان في مينائها، وشاهد بعينيه ما عجز عقله عن استيعابه لحظتها.. كانت أصوات استغاثة النساء تعلو، والرجال يستنجدون والشيوخ يحبون على الأرض، وكان يتعالى صراخ الأطفال.. كان كيوم الحشر، لم يعي أهالي حيفا كيف خرجوا .. وسط القصف العنيف للمدينة من قبل القوات الصهيونية التي أمطرت المدينة بالرصاص والدمار ولم يبق فيها أي مخلوق.. هرع الناس باتجاه المراكب التي أقلتهم إلى عكا، وسط ذهول الجميع. انضم عبد الكريم الزقا _ وادي الصليب بحيفا 1924م_ إلى أكوام الناس الذين لجؤوا إلى عكا، وهناك كانت المراكب تنتظرهم ثانية لتحملهم إلى شواطئ لبنان. لم يطق عبد الكريم الخروج من مدينته حيفا، وما لبث أن عاد إليها ثانية في مخاطرة كبيرة منه بعيد سقوطها، وفور استيعابه لما حدث، صعد إلى المركب وعاد إليها، وهناك كان له الجيش الصهيوني بالمرصاد، لكنه أصر على الذهاب إلى منزله، فدخل منزله لكنهم احتجزوه هناك لمدة عشرة أيام..
بعدها فتحوا له الباب ليغادر وأثناء مغادرته احتجزته عصابة صهيونية أخرى مسلحة ووضعته في إحدى الغرف التي ما إن دخلها حتى سقط مغمياً عليه من هول ما شاهد فيها، فقد شاهد عدداً من أبناء مدينته مذبوحين من نحورهم كالخراف ومكدسين في الغرفة... وبعد فترة قام أحد اليهود ممن كانوا يسكنون حيفا برش الماء على وجهه لإيقاظه من ثم قاده إلى ميناء حيفا، وهناك قال له اليهودي ناصحاً: "أنصحك يا عبد أن تظل وتأخذ هوية إسرائيلية كالبقية، لأنك إذا ما خطيت خطوة واحدة خارج حيفا فلن تعود إليها طيلة حياتك..”، فاشتد الغضب والحزن بعبد الكريم وقال له “أقسم أننا سنعود وسنذبحكم..”، يغص الحاج عبد الكريم بالبكاء ويقول لنا: لقد أقسمت أن أعود وأطردهم من أرضنا، وها قد مضت عشرات السنين ولم أزل منفياً عنها.. ".
أما عن تجربته في الصيد، فيروي لنا الحاج أبو نوح أنه كان مولعاً بالصيد مذ كان طالباً في الصف الرابع الابتدائي، وحاول والده أن يعلمه صنعة أخرى لكنه كان في كل مرة يتركها ويعود إلى البحر، وخلال عمله في الصيد أصبح "ريس" مركب كبير ونال شهادة قبطان، وبعد خروجه من فلسطين ووصوله إلى اللاذقية استمر بعمله في البحر، ويضيف الحاج أبو نوح: “لما جئنا إلى هنا كانت خبرة الصيادين السوريين قليلة وأدواتهم بسيطة وبدائية، فنقلنا لهم تجربتنا وأدرنا العمل في البحر، إذ كان
معظمنا من الذين عملوا في ميناء حيفا، وكان الصيد بفلسطين متطورا أكثر من الصيد هنا من ناحية تنوع الشباك والخبرة والمعلومات وصناعة المراكب..الخ. ما زلت أصنع المراكب وأجهز الشباك رغم بلوغي الثانية والثمانين من العمر خلال جولتنا في مخيم الرمل، وتنقلنا بين الصيادين، لفت انتباهنا وجود صياد طاعن في السن، ضعيف الجسم، يجهز مركبه الصغير للإبحار، فيتداعي له الصيادون الشباب لمساعدته في دفع المركب إلى الشاطئ.. يضع الشباك على متن المركب ويصعد إليه بادئاً رحلته البحرية، يمسك بالمجدافين بقوة ويبدأ الإبحار.. إنه الحاج محمد علي عدلوني _1922 حيفا_، نستأذنه.. يرحب بنا فنصعد برفقته في رحلة قصيرة. حدثنا الحاج محمد أنه كان بحاراً في فلسطين، وأن بحرها كان غنيا بالأسماك والرزق، وأنه عمل سنوات عديدة بالصيد وصناعة المراكب، وقد نقل، كما بقية الصيادين الفلسطينيين، هذه الصناعة إلى سورية عندما لجؤوا إليها عام 1948م، فكانوا الأمهر والأكثر مقدرة بين الصيادين، ويضيف: "عندما جئنا إلى هنا فوجئنا بضعف مقدرة ومهارة الصيادين هنا وبأساليبهم البدائية، فبدأنا نعلمهم ونفيدهم في هذا المجال، خاصة أننا عملنا على مراكبهم بسبب عدم امتلاكنا المراكب بداية اللجوء، فقد تركنا كل ما نملكه في فلسطين، من ثم بدأنا نصنع المراكب الصغيرة والشباك وأصبح حالنا أفضل، إلا أن مواسم السمك بدأت بالتناقص تدريجياً، إلى أن صار الصياد اليوم بالكاد يستطيع تأمين لقمة عيشه، في حين كان الصياد بفلسطين ميسور الحال بسبب وفرة السمك وتعدد أنواعه. واليوم لم أزل أعمل على تصنيع المراكب وتهيئة الشباك، وهذا المركب الذي نحن فيه الآن من صنعي”، أما عن أسباب إقامته المؤقتة في مخيم الرمل فذكر الحاج محمد أن بحر اللاذقية يصله ببحر فلسطين، وأنه ينتظر يوماً يبحر فيه من هنا إلى حيفا فأمله بالله وبتحقيق ذلك كبير.
أثناء حديثنا مع الحاج محمد أشار إلى مركب يقترب منا بسرعة، فقد كان مزوداً بمحرك، وقال هذا ابني، علمته الصيد لأضمن مستقبله بعد أن تعرض لظرف خاص منعه من إتمام دراسته، ولما اقترب المركب منا سأل الوالد هل اصطدت شيئاً، فهز الشاب رأسه بالنفي ... ترأست نقابة الصيادين في سورية ودافعت عن الصيادين طلبنا منه الحديث عن الصيد في اللاذقية فحدثنا عن الصيد في فلسطين، سألناه عن الصيد بفلسطين فحدثنا عن المجازر الصهيونية بحقهم وسقوط ميناء حيفا والأهوال التي تعرضوا لها خلال رحلة اللجوء القسرية،.. كل شيء يعيشه اللاجئ الفلسطيني حالياً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمجازر الصهيونية التي تعرض لها منذ أكثر من نصف قرن ولم يزل، كل هذه المأساة التي يعيشها الفلسطيني في الداخل والشتات هي نتيجة لممارسات صهيونية دموية بحق أبناء شعب أعزل كل ذنبه أن فلسطين أرضه ووطنه.. بهذه الكلمات بدأ السيد عباس حسين رنو _حيفا 1927م_ حديثه لنا، مذكراً بمآسي العام 1948م في فلسطين، قائلاً: "كانت حيفا أولى المدن الفلسطينية التي سقطت بيد العصابات الصهيونية المدعومة من قبل القوات البريطانية، لأهميتها الكبيرة، ففيها الميناء ومركز تكرير البترول والمحطة سكة الحديد، كما تحوي منشآت بريطانية عسكرية، رغم أننا كنا منتصرين طيلة شهور القتال ضد الصهاينة التي امتدت سبعة شهور، والله لقد كانوا يشتهون أكل الخبز، ومن هول ما يشعرون به من خوف ورعب كانوا يتنقلون بواسطة المصفحات البريطانية.. لكن الدعم العسكري وتطور السلاح الذي امتلكوه حال دون نصرنا عليهم، ونحن نمتلك أسلحة بدائية قديمة..”، أما الخروج القسري من حيفا فكان ليلاً، بعد تعرض المدينة للقصف العنيف من قبل الجيش الصهيوني، أما البوليس البريطاني فكان يسهل لنا الخروج من حيفا ويدفعنا باتجاه الخروج، وتابعنا المسير حتى الميناء، وهناك حملتنا المراكب إلى عكا وبعدها إلى لبنان، لقد أودعنا فلسطين أمانة للجيوش العربية لكن الجيوش صارت تنسحب بالتتالي على أن تركت فلسطين كاملة بيد الصهاينة..
الحاج عباس الذي يمتلك اليوم دكاناً لتهيئة الشباك وصناعتها وبيعها، وكافة مستلزمات الصيد الأخرى، والذي كان صياداً وبحاراً معروفاً في فلسطين، حدثنا عن ظروف الصيد في سورية منذ بداية اللجوء الفلسطيني ولغاية اليوم قائلا: “عندما جئنا إلى سورية بدأنا نصطاد بالصنارة من ثم صنعنا الشباك والمراكب، ووظفنا خبرتنا الطويلة في الصيد في ذلك لتطوير مهنة الصيد في سورية. ومن ثم عملت نقيباً للصيادين في سورية أيام الوحدة بين سورية ومصر، ودافعت عن الصيادين وحقوقهم، لا سيما في وجه قانون الالتزام العثماني الذي كان ما يزال سارياً ومجحفاً بحق الصيادين، إذ لم يكن يستطيع الصياد بيع أسماكه إلا عن طريق شخص يدعى "الملتزم" الذي كان يتحكم بالصيادين ويستغلهم، والحمد لله استطعت إلغاء تطبيق هذا القانون على الصيادين..، لقد قضيت حياتي أعمل في الصيد، لكن اليوم كبرت ولم يعد باستطاعتي الصيد، فالصيد يحتاج جهداً كبيراً، لذا اخترت أن أعمل في تهيئة الشباك بمختلف أنواعها وبيعها للصيادين، فهناك أنواع خاصة من الشباك مختلفة حسب نوع السمك وحجمه”. أعمل مدرساً وأصطاد لتأمين بعض المصروفات شاهدناه يلقي الشباك في البحر بخفة ملحوظة محاولاً الصيد، ويسحبها فيعيد ترتيبها ليقيها فيه ثانية في مكان آخر. رغم أنه ولد في المخيم منتصف الخمسينات، ولم تكن قريته في فلسطين ساحلية، إلا أنه تعلم الصيد في مخيم الرمل وأتقنه، يقول رجب سلمان _عين غزال 1955م_: "لست صياداً، إنني معلم في المدرسة، لكني بدأت ممارسة الصيد كهواية ومن ثم بدأت أتقنه وأعتمد عليه في تأمين بعض
المصروفات، فهو يساعد قليلا إلى جانب الراتب. أمارس الصيد بعد الظهر بعد انتهاء دوامي في المدرسة وأصطاد بطريقة قذف الشباك، والشبكة مزودة بفلين من الأعلى وقطع رصاص من الأسفل كي تغوص في الماء..". الصيد بواسطة البندقية أفضل من الشباك
ما يزال الشباب الفلسطيني الذي نشأ في مخيم الرمل واعتاد البحر يستخدم الأساليب القديمة في صيد الأسماك، رغم توفر الوسائل الحديثة، ولكل طريقة صيد ميزتها عن الأخرى. عن الصيد بواسطة البندقية حدثنا الشاب حسام قائلاً: “لاستخدام هذه الطريقة نحتاج إلى لباس غطس، وإلى بندقية صيد بحري، مؤلفة من جسم بندقية وسهم حديدي ذي ثلاثة رؤوس، موصول بحبل إلى جسم البندقية، ويطلق السهم باتجاه السمكة مجرد كبس الزناد، وهي طريقة ممتعة لكنها تحتاج إلى جهد كبير ووقت طويل نقضي معظمه تحت الماء، أما ما يميز هذه الطريقة عن الشباك أنها لا تراها السمكة بعكس الشباك..”.
وللصيد أوقات محددة، ففترة الصباح مخصصة للصيد بطريقة رمي الشباك، أما فترة الظهيرة وما بعدها فيمكن أن نرى خلالها أنواعاً عديدة من طرق الاصطياد، وعدد أكبر من الصيادين، الذين يتجمعون بكثافة عند مصب النهر في بحر اللاذقية قرب مخيم الرمل. يذكر أنه رغم عمل عدد كبير من أبناء المخيم كباراً وصغاراً في الصيد، إلا أن شاطئ البحر الملاصق للمخيم يعاني إهمالاً كبيراً من قبل المعنيين، وبات مصباً للنفايات ومياه الصرف الصحي، الأمر الذي ينعكس على الحالة الصحية لأبناء المخيم.. وما يزال شاطئ الرمل بانتظار من يسعفه .. فهل من مجيب!!