لذكرى صمود ترشيحا

لقد صمد كل الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين ،ولكن صمود أخر قرية احتلت يعتبر حالة استثنائية، فبعد خسارة الجيوش العربية لمدينة تلو المدينة ولقرية تلو القرية وتناقل أخبار المجازر فقد المواطن العربي الروح المعنوية وأي أمل بالنصر، فكيف استطاعوا الصبر على كل تلك المصائب وتجاوزها والمقاومة ؟

اعتاد الناس على الحديث عن صبر أهلي في الحصار ،كما اعتادوا على مدح الصبر وخاصة عندما يرووا الصبر على الحرب والدمار ،لكنهم أبدا لم ينظروا أو يعرفوا سوا ما تنقله الأخبار فهم لم يشهدوا الصبر بأعينهم ،لذا أنقل لهم صورة حياتية بعيدة عن الحرب المباشرة لكنها من أعجب صور الصبر رغم مرور أكثر من أربعة عقود على حدوثها محاولا التفسيربها كيف صبروا وكيف اليوم هم صابرين.

ففي ستينيات القرن الماضي دعونا إلى غداء عند عائلة ترشحاوية كريمة تقيم في احد مخيمات سورية، وكان الغداء مميزا جدا لكن ليس بطعمه ولابتنوع أصنافه بل بسيدة هذا البيت والتي تدعى -ام ..... السبع

كنت أظن أن اسمها عبارة عن صدفة فالسبع لقب كالملك والصقر من الألقاب التي تتردد بالأسماء العربية ويقول المثل الفلسطيني ((الأسامي ببلاش .......)) .

دخلنا دارها ونحن نتسامر الحديث فاستقبلتنا أحسن إستقبال كأي بيت كريم عهدناه ، ففي ذلك الوقت وبعد مرور مايزيد عن خمسة عشر عاما على الهجرة ظن الكثيرين ان حياة الناس ونفسيتهم أصبحت مستقرة بعض الشيئ خاصة بما حمله العهد الناصري من آمال للناس وقبل أن تتحطم في حرب1967

أكلنا ما لذ وطاب وأخذنا الحديث وحسن الضيافة وعندما آثرنا الرحيل ، ودعتنا أم .......السبع على الباب وقالت :أرجوا منكم القدوم عند صلاة المغرب فقد توفت طفلتي صباحا وأنا احضر الطعام فوضعتها على السرير لتظهر كأنها نائمة كي أستطيع القيام بواجب الضيافة

لا أدري ما الذي يمكن ان يوصف به شعورنا وارتباكنا ،لكن ماهو كان أعجب وأغرب كيف أستطاعت ان تصبر على مصيبتها أمامنا دون أن نشعر،البعض تكلم عن أن دافعها كرم الضيافة وآخر لكثرة ماشهدته من أهوال الحرب فقد إعتادت فقدان الأحبة وآخرون ان المتوفاة فقط طفلة..........والكثير الكثير من التفسيرات والتحاليل

أيا كانت الدوافع التي دارت في مخيلتها حينها فأم ...... السبع صخرة من صوان إستطاعت تكبيل كل عواطفها وسجنها خلف ابواب من الأحزان اوصدت من عهد نكبتها لا تفتح حتى لوسادتها لتخفي ما جار به الزمان ،كتنين أخرس يسألوه كيف تحيا وفي داخلك بركان من حمم و نار ، لم يعلموا أن صمته لم يكن عيبا بلاه الله به إنما يخشى على الناس لو تفوه من النيران وسواد قلبه لم يكن حقدا و ما سواده سوى تفحما لكثرة ما غص به الكتمان ، لم تثبت أم .....السبع انها جديرة بالإسم فقط بل أثبتت ان الموت لم يعد يعني شيئا بعد أن أمسى الوطن صورة في خيال والأهل شردوا في كل الديار .

وقد تكون الصورة مخالفة لكل ما تناقل من حديث وتبرير أو خيالات الرواة، فقد تكون وضعت معادلة جديدة وتعريف ينسخ كل ما عرفنا عن الصبر وعاداته وأمثاله التي توارثناها وقد أسست لمعادلة الصبر التي نراها اليوم في غزة دون ان تعلم اوتدرك بانها بداية لظاهرة الصبر الذي لاينتهي،فقد أخبرتنا أمثالنا عن شعرة قصمت الظهر ، لكن الصبر عندها لاينتهي مهما تغيرت الظروف واشتدت على الإنسان الشدائد ،وغيرت معادلة (مافي بعد الصبر إلا المجرفة والقبر) إلى ان قيمة الحياة بما نتجاوزه من مآسيها

فأم ......السبع التي تعيش في عقدها الثمانين بقيت رمزا للصبر على البلاء ،تتناقل الأجيال قصتها وتروي حكايتها لذا لا أرى عجبا في صبر اهلي في الحرب الأخيرة أو الحصار، فإن كان صبر نسائنا دون الحرب كصبر ام..... السبع ففي الحرب لن تجد اسما يليق بنسائنا فصبر رجالنا لا يرقى لما تقدمه أم أنجبت أطفالها لتودعهم شهيدا تلو الشهيد فصبر الرجال على الشهادة أقل من صبر الأمهات على الحياة ،فكلما ودعت أم طفلها كأنها تنتظر عودته شهيدا وكلما خرجت أم من دارها تقول بداخلها-لإن عدت فهل سأرى بيتي ومن فيه من جديد-

فلو لا حد الله النبوة بالرجال لما كان أيوبا سوى اما كأمهاتنا مهجرة او اما محاصرة من أمة ذليلة و خانعة تعلم أن أمتها لن تنجدها ولكن بإيمانها تأبى الهزيمة والإنكسار